«السيدات أولا» .. عبارة شهيرة تعكس تقليدا اجتماعيا لطيفا، اعتدنا عليه كنوع من الاحترام، وإظهار المحبة للمرأة باعتبارها نبع الحياة الخصب، لكن في الآونة الأخيرة، تجمدت هذه العبارة فوق الشفاه، وأصبحت أشبه بمفردات سقط المتاع، فقلما تجد رجلا أو شابا يخلي مكانه في المركبات العامة لامرأة مجهدة، أو فتاة ضاقت ذرعا بالزحام، أو حتى لسيدة عجوز، لا تتحمل قدماها الوقوف طويلا.
قس على ذلك، ما يحدث في مواقف وأشياء كثيرة، وبخاصة زحمة الطوابير التي أصبحت من سنن حياتنا، بداية من حجز تذاكر القطار إلى طوابير الخبز. فالبقاء للأقوى، ولا فرق في ذلك بين رجل وامرأة، بين شاب في مقتبل العمر، وعجوز تحصي ما تبقى لها من العمر. الأمر نفسه بالنسبة للمقاعد المخصصة لكبار السن والحوامل في الحافلات العامة، التي غالبا ما يحتلها الصغار من الجنسين معا.
ورغم أن الكثير من الرجال لا يعيرون التفاتا لهذه المقولة الجميلة، إلا أن الرجال والنساء الأكبر سناً ما زالوا يرون التغافل عنها أمرا غريباً وشاذاً عما ألفوه من توقير للمرأة وتقديمها على الرجل، ولو من باب الكياسة والنبل، ويؤكدون أنها عبارة شارفت على الاندثار.
لكن ما قصة هذه العبارة وهل اندثرت بالفعل أم هي في طريقها إلى ذلك، كما يقول البعض؟
تاريخيا تختلف وتتنوع الأقاويل حول نشأة العبارة، وإن كان المثير للدهشة أنها اتفقت في معظمها على أنها في صورتها الأصلية حملت معنى سلبيا بالنسبة للمرأة، ما يجعل من احتفاء النساء بها مفارقة عجيبة.
تعود حسب الاعتقاد إلى عصور قديمة في أوروبا، حيث اعتاد الأثرياء والشخصيات ذات النفوذ من الرجال السير خلف نساء، سعياً للنجاة من أي محاولات اغتيال محتملة.
ويعيد آخرون ظهورها إلى القرن الثامن عشر، تحديداً في إيطاليا، حيث وقع أحد أبناء الطبقة الارستقراطية الثرية في هوى فتاة فقيرة، وعندما نما الأمر لعلم أسرته هددوه بالتدخل لحرمانه من حبيبته بالقوة، وعليه، اتفق الحبيبان على الانتحار معاً.
وبالفعل، صعدا إلى صخرة عالية وتأهبا لإلقاء نفسيهما في البحر، طلب الشاب من حبيبته بأن يكون أول من يقفز لعجزه عن تحمل ألم مشاهدتها قتيلة، وكان له ما أراد، لكن بعد أن رأته صريعاً، دب الخوف في قلبها وتراجعت عن قرار الانتحار لتعود إلى بلدتها وتتزوج بآخر.
ومنذ ذلك الحين، ظهرت عبارة «السيدات أولاً»، وأصبح الاعتقاد السائد آنذاك أن النساء مترددات وخائنات، لذا، يجب ضمان إتيانهن بالأعمال المتفق عليها أولاً قبل الرجال.
ومع مرور الأيام واختلاف العصور والأزمنة أسقطت ذاكرة البشر المعنى السلبي لهذه العبارة، واحتفظت بمعناها الإيجابي المفترض، وهو ما نراه حاليا، حيث يلقي البعض باللوم عن اختفاء تقليد «السيدات أولاً»، بوجهه الإيجابي، على الإفراط في دعاوى مناصرة المرأة.
من بين هؤلاء مها محمود (26 عاماً)، موظفة، فهي ترى أن هذا التقليد «يكاد يكون اختفى كلية»، والسبب، حسب رأيها، يكمن في المبالغة في المطالبة بحقوق المرأة، «أعتقد أن الرجال يرفضون النهوض من مقاعدهم لتجلس محلهم سيدة لأنهم بداخلهم يقولون، إذا كنتن تطالبن بالمساواة، فلتذقن المساواة في السراء والضراء، لكن هذا لا ينفي أن امتناع بعض الرجال عن تقديم السيدات على أنفسهم في الجلوس والمرور يبقى منافياً لآداب الذوق والسلوك المناسب».
يتفق مع مها إمام محمد (65 عاماً)، مدير سابق بهيئة حكومية، مشيرا إلى أن «سلوك النساء أنفسهن تبدل عن ذي قبل، وأصبح يثبط الرجال عن التعامل معهن بالتبجيل والتوقير المعتاد في الماضي». وضرب أمثلة على ذلك بـ«حديث الفتيات بصوت مرتفع على نحو لافت داخل وسائل المواصلات، وافتقارهن إلى الحياء اللائق بالمرأة، وعدم مراعاتهن التقاليد، إلى جانب تكرار مشاهد دخول بعض النسوة في مشاجرات مع رجال وإبدائهن قدرا بالغا من سلاطة اللسان».
لكن، مهاب كامل (18 عاماً)، طالب جامعي، أكد أن الواقع ليس بهذا السوء «فأنا ومعظم أبناء جيلي عادة ما نقف في المواصلات العامة لتجلس سيدة حامل أو تحمل طفلاً». لكن مهاب اعترف بأنه نادراً ما يقوم بالأمر نفسه مع سيدة لمجرد كونها سيدة فحسب.
أما الدكتور علي أبو ليلة، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، فأعرب عن اتفاقه مع الآراء القائلة بحدوث تراجع حاد في توقير المرأة في الأماكن العامة عما كان عليه الحال منذ خمسين عاماً، وأرجع أبو ليلة، هذا التردي إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
أولها: تراجع القيم الدينية والأخلاقية على نحو عام.
ثانياً: تطرف الدعوات المناصرة لحقوق المرأة في الفترة الأخيرة، التي تم استيرادها من الغرب من دون إدخال تعديلات تلائم مجتمعنا عليها، مما جعلها تخلق نوعاً من العداء بين الرجل والمرأة، وجعلت الرجل في دائرة الاتهام طيلة الوقت، وكان من الأفضل تناول حقوق المرأة داخل إطار الاهتمام بالأسرة، علاوة على أننا كشرقيين عجزنا عن التعامل مع هذه الدعوات بوعي كاف.
والسبب الثالث يكمن في الظروف الاقتصادية العصيبة التي تمر بها غالبية الشعوب العربية والمسلمة، التي زادت من التوتر العام على نحو شديد وجعلت مراعاة آداب الذوق العامة نوعاً من أنواع الترف بالنسبة للكثيرين.
رأي أبو ليلة المحدد تصيغه بشكل مباشر أم طارق (65 عاماً)، عاملة بأحد مصانع الملابس الجاهزة، بقولها: «المسألة ليست مسألة سيدات ورجال، المسألة ذوق وأدب، أليست المرأة بطبعها إنسانة ضعيفة، ويجب على الرجل تقدير ذلك، فهذه أصول العلاقة والعشرة الطيبة والتربية أولا وأخيرا».
تضرب أم طارق أمثلة على ذلك من واقع خبرتها، وتروي أنها ربت أولادها الثلاثة على الأخلاق الطيبة، وحسن العشرة، وتوقير الكبير واحترامه .. وعلى حد قولها «الحياة أخذ وعطاء .. والاحترام أصل كل شيء جميل، ومن غير ذلك نصبح كأننا في غابة».
حرارة كلام أم طارق وعفويته تعيد عبارة «السيدات أولا» إلى شهوتها الأولى، لكن السؤال يظل قائما، وهو بأي مقاييس جديدة يمكن أن يتسع الواقع بكل ضغوطه حاليا لهذه العبارة النبيلة؟ وهل سيتطلب الأمر رسوما من نوع ما، تدفعها المرأة لتظل هذه العبارة فوق الشفاه بشكل عفوي أصيل، بعيدا عن حمى المبالغة والتضخيم، التي أصبحت تملأ حياتنا بالصخب والضجيج؟ هذا هو السؤال