تطرق ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم (مفتاح دار السعادة) إلى حديث النهي عن استقبال الشمس والقمر واستدبارهما عند قضاء الحاجة وذكر رأي الفقهاء وعلماء الهيئة في ذلك، فأورد كلاماً رائعاً يدل على نبوغه وعبقريته.
قال رحمه الله من جملة ذلك: وفي قوله صلى الله عيه وسلم " لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته " قولان:
أحدهما: أن موت الميت وحياته لا يكون سبباً في انكسافهما كما كان يقول كثير من جهال العرب وغيرهم عند الانكساف: إن ذلك لموت عظيم أو لولادة عظيم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأخبر أن موت الميت وحياته لا علاقة له في كسوفهما البته..
والثاني: أنه لا يحصل عن انسكافهما موت ولا حياة فلا يكون انكسافهما سبباً لموت ميت ولا لحياة حي وإنما ذلك تخويف من الله لعباده، أجرى العادة بحصوله في أوقات معلومة بالحساب كطلوع الهلال وإبداره وسراره.
سبب كسوف الشمس:
فأما سبب كسوف الشمس، فهو توسط القمر بين جرم الشمس وبين أبصارنا، فإن القمر عندهم جسم كثيف مظلم وفلكه دون فلك الشمس، فإذا كان على مسامته إحدى نقطتي الرأس أو الذنب أو قريب منهما حالة الاجتماع من تحت الشمس حال بيننا وبين نور الشمس كسحابة تمر تحتها إلى أن يتجاوزها إلى الجانب الآخر فإن لم يكن للقمر عرض ستر عنا نور كل الشمس وإن كان له عرض ستر عنا بقدر ما يحجبه عرضه، فإن وجهنا أبصارنا إلى جرم الشمس حالة كسوفها فإنه ينتهي إلى القمر أولاً مخروط الشعاع، فإذا توهمنا نفوذه منه إلى الشمس وقع جرم الشمس في وسط المخروط فإن لم يكن للقمر عرض انكسف كل الشمس وإن كان للقمر عرض فبقدر ما يوجبه عرضه إذ ينحرف جرم الشمس عن مخروط الشعاع ولا يقع كله فيه فينكسف بعضه ويبقى الباقي على ضيائه، وذلك إذا كان العرض المخروط المتصل بالشمس مساوٍ لقطريها فكما ابتداء القمر بالحركة بعد تمام الموازاة بينه وبين الشمس يختلف باختلاف أوضاع المخروط وابتدأت الشمس بالإسفار إلا أن كسوف الشمس يختلف باختلاف المساكن حتى أنه يرى في بعضها ولا يرى في بعضها، ويرى في بعضها أقل، وفي بعضها أكثر بسبب اختلاف المنظر إذ الكاسف شيء متوسط بينها وبين الأبصار وهو قريب منها والمحجوب عنها بعيد فيختلف التوسط باختلاف مواضع الناظرين.
وكذلك يختلف كسوف الشمس في مبدئها عند انجلائها في كمية ما ينكسف منها وفي زمان كسوفها الذي هو من أول البُدُوّ إلى وسط الكسوف، ومن وسط الكسوف إلى آخر الانجلاء..، فإن قيل فجرم القمر أصغر من جرم الشمس بكثير فكيف يحجب عنا كل الشمس؟
قيل: إنما يحجب عنا جرم الشمس لقربه منا وبعدها عنا لأن الشيئين المختلفين في الصغر والكبر إذا قرب الصغير من الكبير يرى من أطراف الكبير أكثر ما يرى منها مع بعد الأصغر عنه، وكلما بعد الأصغر عنه وازداد قربه من الناظر تناقص ما يرى من أطراف الأكبر إلى أن ينتهي إلى حد لا يرى من الأكبر شيء والحسّ شاهدُ بذلك.
سبب خسوف القمر:
وأما سبب خسوف القمر فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير القمر ممنوعاً من اكتساب النور من الشمس ويبقى ظلام ظل الأرض في ممره لأن القمر لا ضوء له أبداً وهو يكتسب الضوء من الشمس. وهل هذا الاكتساب خاص بالقمر أم يشاركه فيه سائر الكواكب ؟ فيه قولان لأرباب الهيئة:
أحدهما: أن الشمس وحدها هي المضيئة بذاتها وغيرها من الكواكب مستضيئة بضيائها على سبيل العرض كما عرف في القمر..
والقول الثاني: أن القمر مخصوص بالكمودة دون سائر الكواكب، وغيره من الكواكب مضيئة بذاتها كالشمس... ورد هؤلاء على أرباب القول الأول لأن الكواكب لو استفادة أضواءها من الشمس لاختلفت مقادير تلك الأضواء فيما كان تحت ضوئه بحسب قربه وبعده من الشمس.
والذي حمل أرباب القول الأول عليه ما وجدوه من تعلق وحركات الكواكب بحركات الشمس وظنوا أن ضوءها من ضيائها وليس الغرض استيفاء الحِجاج من الجانبين وما لكلٍ من قول وعليه، وإنما المقصود ذكر سبب الخسوف القمري.
أثر كثافة الأرض في عمليات الكسوف والخسوف:
ولما كانت الأرض جسماً كثيفاً فإذا أشرقت الشمس على جانب منها فإنه يقع لها ظل في الجهة الأخرى، لأن كل ذي ظل يقع في الجهة المقابلة للجرم المضيء فمتى أشرقت عليها من ناحية الشرق وقعت ظلالها من ناحية الغرب مالت ظلالها من ناحية الشرق. والأرض أصغر من جرم الشمس بكثير فينبعث ظلها ويرتفع في الهواء على شكل مخروط قاعدته قريبة من تدوير الأرض ثم لا يزال تنخرط تدويره حتى يدق ويتلاشى لأن قطر الشمس لما كان أعظم من قطر الأرض فالخطوط الشعاعية الماره من جوانب الشمس إلى جوانب الأرض تكون متلاقية لا متوازية فإذا مرت على الاستقامة إلى الأرض انقذفت على جوانبها فتلتقي لا محالة إلى نقطة فينحصر ظل الأرض في سطح مخروط فيكون مخروطاً لا محالة، قاعدته حيث ينبعث من الأرض، ورأسه عند نقطة تلاقي الخطوط.
ولو كان قطر الأرض مساوياً لقطر الشمس لكانت الخطوط الشعاعية تخرج إليها على التوازي فيكون الظل متساوى الغلظ إلى أن ينتهي إلى محيط العالم، ولو كان قطر الشمس أصغر من قطر الأرض لكانت الخطوط تخرج على التلاقي في جهة الشمس وأوسعها عند قطر الأرض، ولكان الظل يزداد غلظاً كلما بعد عن الأرض إلى أن ينتهي إلى محيط العالم ويلزم من ذلك أن ينخسف القمر في كل استقبال، والوجود بخلافه.
حدوث الليل والنهار:
ولما ثبت أن ظل الأرض مخروط الشكل وقد وقع في الجهة المقابلة لجهة الشمس فيكون نقطة رأسه في سطح فلك البروج لا محالة ويدور بدوران الشمس وهذا الظل الذي يكون فوق الأرض هو الليل، وإن كانت الشمس فوق الأرض كان الظل تحت الظل الذي يكون فوق الأرض هو الليل، فإن كانت الشمس فوق الأرض كان الظل تحت الأرض بالنسبة إلينا ونحن في ضياء الشمس، وذلك هو النهار، والزمان الذي يوازي دوام الظل فوق الأرض هو زمان الليل، فإذا اتفق مرور القمر على محاذاة نقطتي الرأس والذنب في حالة الاستقبال يقع مخروط الظل لا محالة لأن الخط الخارج من مركز العالم المارّ بمركز الشمس ثم بمركز القمر من الجانب الآخر ينطبق على سهم مخروط الظل فيق القمر وسط المخروط فينخسف كله ضرورة لأن الأرض تمنعه من قبول ضياء الشمس فيبقى القمر على جوهره الأصلي، فإن كان للقمر عَرَض ينحرف عن سهم المخروط بقي الضوء فيه بقدره وطبعه.
وقد يقع كله في المخروط ولكن يمر في جانب منه، وقد يقع بعضه في المخروط ويبقى بعضه خارجاً وربما يماسّ للظل ولا يقع من جرمه شيء وإنما يختلف هذا باختلاف بعده من الخط الخارج من مركز العالم المار بمركز الشمس المطابق لسهم المخروط حتى إذا عظم عرضه بأن لايبقى بينه وبين إحدى نقطتي الرأس والذنب اكثر من ثلاثة عشر دقيقة لا يماس المخروط أصلاً، وإذا وقع في جانب منه قل مكثه وربما لم يكن له مكث اصلاً، وإنما يعرف ذلك بتقديم معرفة قطر الظل وقطر القمر يختلف باختلاف أبعاده عن الأرض وكذلك قطر الظل أيضاً يختلف باختلاف ابعاده الشمس عن الأرض، فإن الشمس متى قربت من الأرض كان ظل الأرض دقيقاً قصيراً وإذا بعدت عنها كان ظل الأرض طويلاً غليظاً، لأنها متى بعدت عن الأرض يرى قطرها أصغر وأقرب تلاقياً منها وكلما كان أعظم مقداراً في رأي العين فالخطوط الشعاعية أقصر وأقرب تلاقياً. فلذلك يختلف قطع القمر مع غلظ الظل في أوقات الكسوفات والموضع الذي يقطعه القمر في الظل يسمونه (فلك الجوّ زهر).
مقدار الجزء المكسوف والمخسوف من الشمس والقمر:
وإذا عرف قطر الظل وإذا عرف مقدار نصف القمر وجمع بينهما ونصف ذلك وعرف عرض القمر إن كان له عرض فإن كان العرض مساويا لنصف مجموع القطرين فإن القمر يماسّ دائرة الظل ولا ينكسف وإن كان العرض أقل من نصف مجموعها فإنه ينكسف، فينظر إن كان مساوياً لنصف قطر الظل انكسف من القمر مثل نصف صفحته وإن كان العرض أقل من نصف قطر الظل فينتقص العرض من نصف قطر الظل فإن كان الباقي مثل قطر القمر انكسف كله ولا يكون له مكث وإذا لم يكن له عرض انكسف كله ويمكث زماناً أكثر.
وأطول ما يمتد زمان الكسوف القمري أربع ساعات وأما زمن الخسوف الشمسي فلا يزيد عن ساعتين.وخسوف القمر يختلف باختلاف أوضاع المساكن، إذ الكسوف عارض في جهة وهو عبوره في الظل ظلام الأرض بخلاف كسوف الشمس وإنما يختلف الوقت فقط بأن يكون في بعض المساكن على مضي ساعة من الليل، وفي بعضها على مضي نصف ساعة، وقد يطلع منكسفا في بعض المساكن وينكسف بعد الطلوع في بعضها، وقد لا يرى منكسفاً أصلاً إذا كانت الشمس فوق الأرض حالة الاستقبال، ويرى الخسوف في القمر أبداً من طرفه الشرقي، إذ هو الذاهب إلى الاستقبال نحو المشرق والدخول في الظل بحركته ثم ينحرف قليلاً قليل إلى الشمال أو الجنوب في بدء انجلائه أيضاً من طرفه الشرقي، وأما الشمس فبدأ الكسوف في طرفها الغربي، إذا الكاسف لها يأتي إليها من ناحية الغرب.
وكذلك الانجلاء أيضاء من الطرف الغربي لكن بانحراف منه إلى الشمال والجنوب. وإنما ذكرنا هذا الفصل ولم يكن من غرضنا الأن كثيراً من هؤلاء المخرصين يموهون على الجهال بأمر الكسوف ويوهمونهم أن قضاياهم وأحكامهم النجومية من السعد والنحس والظفر والغلبة وغيرها هي من جنس الحكم بالكسوف فيصدق بذلك الأغمار والرعاع ولا يعلمون أن الكسوف يعلم بحساب سير النيرين في منازلهما وذلك أمر أجرى الله تعالى العادة المضطردة به كما أجراها في الأبدار والسرار والهلال، فمن علم ما ذكرناه في هذا الفصل علم وقت الكسوف ودوامه ومقداره وسببه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق